كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الأمر الثاني: أنّ المراد نفي الحب عن كل فرد من الخونة الكفرة، فالمراد عموم السلب وشموله لجميع الأفراد، لا سلب العموم، وقول البيانيين: إنّ تقديم النفي على أداة العموم يفيد سلب العموم فالحق أنه حكم أكثري لا كلي، بدليل قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276] وقوله: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] وكذلك ما معناه. فالمعتبر إذا في الحقيقة هو القرأئن، فمتى دلّت على عموم السلب كان الكلام لعموم السلب، تقدّم النفي أو تأخّر.
ونقل بعضهم عن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وجها آخر بناء على أنّ الحكم كلي، وحاصله أنه قد يعدل بحسب الظاهر عما يدل على عموم السلب إلى ما يفيد سلب العموم ظاهرا، وإن كان السلب عاما بحسب الحقيقة تعريضا بأنّ المخاطبين شرّ هذا النوع، كما جاء في الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} تعريضا بما نزلت فيهم من الأعداء بأنّ محبة اللّه تعالى لا تنالهم بأي وجه من الوجوه، وأنّه لو تعلّقت محبة اللّه بخائن كافر فإنّها لا تتعلق بأولئك، لأنهم شر هذا النوع، ولا يخفى عليك أن بناء الحكم على أبعد الفروض والاحتمالات أبلغ وأقوى، لأن بناءه على تلك الصورة يجعل السامع لا يتطرق إليه أي احتمال آخر في خلاف الحكم.
قال اللّه تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)}.
الإذن معناه الترخيص، فهو للإباحة بعد الحظر، وقرئ كلّ من {أُذِنَ} و{يُقاتَلُونَ} بالبناء للمفعول وبالبناء للفاعل.
هذه هي أول آية نزلت في القتال بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية، على ما روى الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي اللّه عنهما.
وأخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري وكذا النسائي بإسناد صحيح عنه موقوفا عن عائشة رضي اللّه عنها.
وأخرج أحمد والترمذي وحسّنه والنسائي وابن سعد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلَكِن، فنزلت: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}. قال ابن عباس: فهي أول آية نزلت في القتال.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية: أول آية نزلت فيه {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190].
وفي الإكليل للحاكم أنّ أوّل آية نزلت فيه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ}.
والظاهر الأول، وبه قال كثير من السلف كابن عباس ومجاهد، والضحاك وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة وغيرهم، ويؤيده أيضا ذكرها بعد الوعد بالمدافعة والنصر.
المفردات: أُذِنَ المقصود به إباحة القتال ومشروعيته على القول الأول، وحكاية الإذن الحاصل من قبل توطئة لبيان أسباب المشروعية وغايتها على القول الثاني.
{لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ} المراد بهم المهاجرون، كما يدلّ عليه وصفهم بالإخراج من الديار بغير حق، لأنّ هذا الوصف لا ينطبق إذ ذاك إلا عليهم. والمأذون فيه هو القتال، وحذف لدلالة المقام عليه.
ووصفهم بالقتال الواقع عليهم على قراءة المبني للمفعول على حقيقته، سواء قلنا: إنها أول آية نزلت في القتال أم لا، لأنّ قتال المشركين واضطهادهم لهم كان حاصلا على كل حال.
وأما وصفهم بالقتال الواقع منهم على قراءة المبني للفاعل فعلى أنها ليست أول آية نزلت في القتال يكون على حقيقته أيضا، وعلى أنها أول آية نزلت فيه يكون وصفهم عند بدء الإذن بالقتال إما على تقدير الأرادة والحرص، أي يريدون أن يقاتلوا المشركين، ويحرصون على ذلك، وإما على أرادة استحضار ما يكون منهم في المستقبل، وحقيقة قد كانوا حريصين كل الحرص على هذا القتال، فإنّ الدفاع عن النفس والعقيدة والوطن أمر محبب إلى النفوس، لاسيما إذا كانت تعتقد أنها على الحق، وأن خصمها على الباطل.
المعنى: لما وعد اللّه عز وجل في الآية السابقة المؤمنين بالدفاع وكفّ غوائل المشركين عنهم، وأوعد في ضمن هذا الوعد الكافرين بالقهر والخذلان، أتبع ذلك ببيان مشروعية الجهاد والإذن لهم في قتال أعدائهم، مع بيان أسبابه وغايته، للإيذان بأنّ طريق الدفاع الموعود به عن الأولياء وسبيل القهر والخذلان الموعود به للأعداء هو إذنه تعالى للمؤمنين في القتال، كما يدل على ذلك قوله تعالى في الآية التالية: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} لأن القتال في سبيل اللّه من أعظم المواطن التي تتجلى فيها رعاية اللّه وعنايته بالمؤمنين بما يفاض عليهم في تلك المواقف الرهيبة من النصر والتأييد، وتثبيت قلوبهم، وإمدادهم بالأسباب الحسية والمعنوية على ما عرف وتواتر من نفحات اللّه لهم في مواطن الحرب وميادين القتال.
ثم بيّن اللّه تعالى سبب الإذن في القتال على سبيل الإجمال بقوله: {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} فاللّه تعالى أذن للمسلمين في قتال عدوهم وندبهم للجهاد في سبيله، لا حبا في إراقة الدماء وإزهاق الأرواح، ولا لمجرد البطش والقهر، كما يزعم خصوم الإسلام، فإنّ الإسلام دين أمن وسلام، وبشير رحمة وطمأنينة، ولَكِنه تعالى أذن لهم لأجل أن يدفعوا ذلك الظلم الذي وقع عليهم من جانب المشركين والذي أصابهم في أوطانهم وأنفسهم ودينهم، فإنه صلى الله عليه وسلم ما كاد يصدع بالأمر، ويجهر بالدعوة، حتى هاج هائج قريش، وتذمرت على المسلمين، وأعلنوا عليهم حربا شعواء، وأعملوا فيهم يد الانتقام الوحشي، {لا يألون في مؤمن إلّا ولا ذمة}، {وما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)} [البروج: 8]، ونالوا منهم أشد ما يناله عدوّ من عدوه، طمعا في ارتدادهم عن دينهم، والحيلولة بينهم وبين الالتفات حول الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، وقد غاب عنهم أن الدين الحق متى خالطت بشاشته القلوب، واستقر في أعماق النفوس، كان التعذيب والتقتيل والتنكيل أهون عليها من انتزاع الدين منها.
ولست أبالي حين أقتل مسلما ** على أيّ جنب كان في اللّه مصرعي

فكانوا أمام هذه العواصف الهوجاء والمواقف الرهيبة والفتن التي كانت كقطع الليل المظلم أثبت على حبهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم من الجبال الرواسي، فما استطاعوا فتنة مسلم عن دينه، ولا تحويل قلبه عن حب اللّه وحب رسوله صلى الله عليه وسلم.
لم يقف ظلم هؤلاء الظالمين عند حد الأتباع والأنصار، بل آذوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأشد أنواع الإيذاء، رموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، وحثوا على رأسه التراب، ووضعوا بين كتفيه وهو ساجد بين يدي ربه سلا جزور وهم يتضاحكون، وأغرت ثقيف سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ويرمون عراقيبه بالحجارة حتى اختضب نعلاه بالدماء، وهذا قليل من كثير مما فعلوه معه صلى الله عليه وسلم، وهو صابر على أذيّتهم، محتسب عند اللّه ما يناله معهم.
فعلوا كل هذا وأكثر منه بالمسلمين حتى ألجئوهم على الخروج من أوطانهم وترك أموالهم وأهليهم فرارا بدينهم.
فأيّ ظلم أقبح وأشنع من هذا الظلم الذي لم يرتكبوه إلا انتصارا للباطل، واضطهادا للحق، وإيثارا لعبادة الأوثان على عبادة اللّه الواحد القهار، والذي لم يتعفف أهله عن الإسفاف في الخصومة والفجور في الإيذاء.
قال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ذهب كثير من المفسرين إلى أنه وعد بالنصر، وتأكيد لما مرّ من الوعد بالدفاع عن المؤمنين، وتصريح بأنّ المراد بالوعد السابق ليس مجرد تخليصهم من أيدي عدوهم، بل إظهارهم عليهم، وتمكينهم في الأرض، وهو إخبار وارد على سبيل العزة والكبرياء، كما يقول الملك: إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك. لا يريد بذلك حقيقة الإخبار بالقدرة على ذلك، بل يريد أنه سيفعل على سبيل التأكيد.
وذهب ابن كثير إلى أن المعنى: أنه تعالى قادر على نصر المؤمنين من غير قتال وجهاد، ولَكِنه أذن لهم في القتال، وندبهم إلى الجهاد، لأنه يريد من عباده بذل جهدهم في طاعته، كما قال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4]. وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 16] وقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31)} [محمد: 31]. وقال: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)} [العنكبوت: 2].
أقول: وعلى هذا القول يكون المقصود هو تنبيه المسلمين إلى أنّ الدنيا دار ابتلاء واختبار، وأنّ الحياة ميدان تسابق وتنافس، وأن مدار هذا الدين على الأرادة والاختبار، لا على الإكراه والاضطرار، وأنّ الجزاء من جنس العمل {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة] ولا يكون ذلك كله إلا بفتح أبواب العمل أمام العاملين، ودعوة الناس إلى الجهاد والكفاح، وابتلائهم بمواقع الشدائد والمحن، لكي يتبين المجاهدون من القاعدين، والمخلصون من المنافقين. ومن آمن حبا في اللّه ورسوله ممن آمن حبا في الإبقاء على نفسه وماله وجاهه، وإلا فلو كان النصر حليف المسلمين من غير قتال وجهاد، وكان المؤمن معافى في نفسه وماله وولده، متقلبا في أحضان النعيم من مهده إلى لحده، لما كانت الدنيا دار ابتلاء واختبار ولما كان إيمان المؤمن اختيارا وترجيحا للإيمان على الكفر، وإيثارا لمرضاة اللّه ومحابّه على مرضاة نفسه وشهواته، ولبطلت التكاليف المبنية على الأرادة والاختيار ومحاربة النفس والهوى، ولما كان الجزاء ثمرة للعمل، ونتيجة لازمة للكد والتعب، فعليهم أن يلتزموا هذه السنن، وأن يعملوا على مقتضاها، وفي ذلك بلوغ المأمول وإنجاز الموعود.
قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)}.
قيل: إن الأمر في هذه الآية بالركوع والسجود والعبادة وفعل الخير متوجه إلى الناس جميعا، إذ إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، غير أن الخطاب فيها خصّ به المؤمنون لمزيد الاعتناء بهم وتشريفهم، ولأنهم هم الذين ينتفعون بهذا التكليف.
وقيل: إن هذه الأوامر خاصة بالمؤمنين، كما أنّ الخطاب متوجه إليهم وحدهم. أما الكفار فإنّهم لما أعرضوا عن قبول دين اللّه، ولم يستجيبوا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأبوا من قبل أن يمتثلوا لهذه الأوامر، أعرض اللّه عنهم، وصرف خطابه وأوامره إلى أهل طاعته الذين يعرفون حقه، ويمتثلون أحكامه. أما أولئك الكفار فإنّهم لا ينفع فيها إرشاد، ولا يرجى منهم قبول ولا امتثال، فهم جديرون بالترك والإهدار. وهذا المعنى أحسن وأوجه، وهو سائر حتى مع القول بتكليف الكفار بالفروع، وهو الذي يناسبه ما ورد في الآية الآتية من اجتباء المخاطبين، وتسميتهم بالمسلمين، وإعلاء شأنهم بقبول شهادتهم على الأمم يوم القيامة.
وقد اختلف في المراد بالركوع والسجود في الآية. فقال الحنفية: إن المراد بهما معا الصلاة، فالأمر بهما أمر بالصلاة، وإنما عبّر عن الصلاة بهما لأنهما أهم أركانها وأفضلها. وقيل: إنهما كنايتان عن الذلة والخضوع. وقيل: المراد معناهما الشرعي المعروف. وقد أمر بهما لأنّ الناس في أول الإسلام كانوا يصلون تارة بغير ركوع، وتارة بغير سجود، فاللّه أمرهم بإتمام الصلاة والإتيان فيها بالركوع والسجود.
وقال الشافعية إنّ الركوع مجاز عن الصلاة لاختصاصه بها. أما السجود فالمراد به سجود التلاوة. والعبادة: هي كل فعل تتجلى فيه الذلة والاستكانة تحت قهر الإله وسلطانه، وعلى هذا قيل: إن المراد بها التكاليف التي تربط العبد بربه، فهي أعمّ مما قبلها.
أما فعل الخيرات فهو عام للتكاليف جميعها، يشمل ما يصلح علاقة العبد بالرب، وما يصلح علاقات الناس بعضهم مع بعض، فأنت تجد هذه الأوامر مرتبة، بدئ فيها بعبادة خاصة: وهي الصلاة، ثم ثنّي بما هو أعم منها: وهو جميع العبادات، ثم أتبع ذلك بما هو أعم من الكل: وهو فعل الخيرات الشامل للعبادات وللإحسان في المعاملات، وبعضهم حمل العبادة على الفرائض، وفعل الخير على النوافل.
والفلاح: هو الفوز بنيل البغية، ولا شكّ أن بغية كل عابد سائر على نهج الشريعة إنما هي السعادة الدائمة في الآخرة، وهناءة العيش في الدنيا، وقد علمت آنفا ما ينبغي أن يقال في كلمة لعل الواردة في كلام اللّه تعالى. ويصحّ أن يراد منها هنا أيضا الرجاء الحقيقي.
ولَكِن على تقدير صدوره من العباد فيكون المعنى عليه: يا أيها الذين آمنوا صلوا، وأدوا للّه كل ما تعبدكم به، وافعلوا كلّ ما كلّفكم مما فيه الخير لكم ولأمتكم حالة كونكم راجين الفلاح، ومتوقعين الفوز ودرك الرغائب، فاللّه سبحانه يرشد المؤمنين إلى أنّه ليس من شأن العبد الذليل الذي يشعر قلبه الخشية من اللّه والخوف من جبروته أن يقطع بنتيجة في عمل من الأعمال التي كلّفها، بل ينبغي أن تكون حاله بعد أن يحسن عمله حالة الرجاء، وتوقع ما يؤمّل من نتيجة صالحة، إذ إن العواقب مجهولة، وقد يكون مقصّرا بعض التقصير في أعماله، فلم يأت بها على الوجه الذي يحبه اللّه ويرضاه.
ظاهر من الآية أنها قد جمعت أنواع التكاليف، وأحاطت بفروع الشريعة، فلم يفلت منها فرض ولا ما دون الفرض، وظاهر أيضا أنها قصدت إلى الصلاة التي هي عماد الدين، فأمرت بها مستقلا، ولم تقتصر على طلبها في عموم العبادات، ولا شكّ أن ذلك يدلّ على تأكّدها وفرضيتها على الناس جميعا.
غير أن الشافعية قالوا: إنّ الآية آية سجدة، وأخذوا من الأمر بالسجود فيها سجود التلاوة مطلوب لها كغيرها من بقية آيات السجود، مستندين في هذا إلى ما يأتي:
1- إنّ السجود حقيقة في المعنى المعروف: وهو وضع الجبهة على الأرض، فمتى أمكن حمل اللفظ عليه فلا يصح العدول عنه إلا لموجب، وهو غير موجود في الآية.
2- وقالوا: أيضا: قد ورد في السنة ما يؤيّد هذا المعنى، ويكشف عن المراد بالسجود في الآية، فقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر رضي اللّه عنه قال: قلت: يا رسول اللّه أفضلت سورة الحج على سائر القران بسجدتين؟ قال: «نعم فمن لم يسجدهما، فلا يقرأهما».
وأخرج أبو داود وابن ماجه والدار قطني والحاكم عن عمرو بن العاص أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصّل، وفي الحج سجدتان.
وكان يقول بهذا علي، وعمر، وابنه عبد اللّه، وعثمان، وأبو الدرداء، وابن عباس في إحدى الروايتين عنه، وبه أخذ أيضا الإمام أحمد، واللّيث وابن وهب، وابن حبيب من المالكية رضي اللّه عنهم جميعا.
وقال أبو حنيفة، ومالك، والحسن، وابن المسيب، وابن جبير، وسفيان الثوري رضي اللّه عنهم: إنّ هذه الآية ليست آية سجدة، واستدلوا بما يأتي:
1- إنّ اقتران السجود بالركوع دليل أنّ المراد به سجود الصلاة، كما في قوله تعالى: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] فإذا لم يكن هذا الاقتران موجبا لحمل السجود على سجود الصلاة، وأنه عبر عن الصلاة بمجموع الأمرين، فلا أقلّ من أن يكون مرجحا، لذلك فلا يصح أن يؤخذ من الآية أنّ السجود فيها سجود التلاوة.
2 – ما روي عن أبي رضي اللّه عنه أنه عدّ السجدات التي سمعها من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعدّ في الحج سجدة واحدة.